الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود: {فما كان جواب قومه}.بالنصب على أنه خبر كان واسمها قوله تعالى: {إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه} وقرىء بالرفع على العكس. وقد مر ما فيه في نظائره، وليس المراد أنه لم يصدر عنهم بصدد الجواب عن حجج إبراهيم عليه السلام إلا هذه المقالة الشنيعة كما هو المتبادر من ظاهر النظم الكريم بل إن ذلك هو الذي استقر عليه جوابهم بعد اللتيا والتي في المرة الأخيرة وإلا فقد صدر عنهم من الخرافات والأباطيل ما لا يحصى {فأنجاه الله من النار} الفاء فصيحة أي فألقوه في النار فأنجاه الله تعالى منها بأن جعلها عليه الصلاة والسلام بردا وسلاما حسبما بين في مواضع أخر، وقد مر في سورة الأنبياء بيان كيفية إلقائه عليه الصلاة والسلام فيها وإنجائه بدعائه تعالى إياه تفصيلا. قيل لم ينتفع يومئذ بالنار في موضع أصلا {إن في ذلك} أي في إنجائه منها {لآيات} بينة عجيبة هي حفظه تعالى إياه من حرها وإخمادها في زمان يسير وإنشاء روض في مكانها {لقوم يؤمنون} وأما من عداهم فهم عن اجتلائها غافلون ومن الفوز بمغانم آثارها محرومون.{وقال} أي إبراهيم عليه السلام مخاطبا لهم {إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا} أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها وائتلافكم، وثاني مفعولي اتخذتم محذوف أي أوثانا آلهة ويجوز أن يكون مودة هو المفعول بتقدير المضاف أو بتأويلها بالمودودة أو بجعلها نفس المودة مبالغة أي اتخذتم أوثانا سبب المودة بينكم أو مودودة أو نفس المودة. وقرىء مودة منونة منصوبة ناصبة الظرف وقرئت بالرفع والإضافة على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي مودودة أو نفس المودة أو سبب مودة بينكم. والجملة صفة أوثانا أو خبر إن على أن ما مصدرية أو موصوله قد حذف عائدها وهو المفعول الأول وقرئت مرفوعة منونة ومضافة بفتح بينكم كما قرىء {لقد تقطع بينكم} على أحد الوجهين وقرىء إنما مودة بينكم والمعنى أن اتخاذكم إياها مودة بينكم ليس إلا في الحياة وقد أجريتم أحكامه حيث فعلتم بي ما فعلتم لأجل مودتكم لها انتصارا مني كما ينبىء عنه قوله تعالى وانصروا آلهتكم.{ثم يوم القيامة} تنقلب الأمور ويتبدل التواد تباغضا والتلاطف تلاعنا حيث {يكفر بعضكم} وهو العبدة {ببعض} وهم الأوثان {ويلعن بعضكم بعضا} أي يلعن كل فريق منكم ومن الأوثان حيث ينطقها الله تعالى الفريق الآخر {ومأواكم النار} أي هي لكم الذي تأوون إليه ولا ترجعون منه أبدا {وما لكم من ناصرين} يخلصونكم منها كما خلصني ربي من النار التي ألقيتموني فيها. وجمع الناصر لوقوعه في مقابلة الجمع أي ما لأحد منكم من ناصر أصلا.{فئامن له لوط} أي صدقه في جميع مقالاته لا في نبوته وما دعا إليه من التوحيد فقط فإنه كان منزها عن الكفر. وما قيل إنه آمن له حين رأى النار لم تحرقه ينبغي أن يحمل على ذكرنا أو على أن يراد بالإيمان الرتبة العالية منه وهي التي لا يرتقي إليها إلا همم الأفراد الكمل. ولوط هو ابن أخيه عليهما السلام. {وقال إنى مهاجر} أي من قومي {إلى ربى} إلى حيث أمرني ربي {إنه هو العزيز} الغالب على أمره فيمنعني من أعدائي {الحكيم} الذي لا يفعل فعلا إلا وفيه حكمة ومصلحة فلا يأمرني إلا بما فيه خلاصي. روي أنه هاجر من كوثى سواد الكوفة مع لوط وسارة ابنة عمه إلى حران ثم منها إلى الشأم فنزل فلسطين ونزل لوط سدوم {ووهبنا له إسحاق ويعقوب} ولدا ونافلة حين أيس من عجوز عاقر {وجعلنا في ذريته النبوة} فكثر منهم الأنبياء {والكتاب} أي جنس الكتاب المتناول للكتب الأربعة {وآتيناه أجره} بمقابلة هجرته إلينا {فى الدنيا} بإعطاء الولد والذرية الطيبة واستمرار النبوة فهيم وانتماء أهل الملل إليه والثناء والصلاة عليه إلى آخر الدهر {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} أي الكاملين في الصلاح. اهـ..قال الألوسي: {فما كان جواب قومه} بالنصب على أنه خبر كان واسمها قوله تعالى: {إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه}.وقرأ الحسن، وسالم الأفطس بالرفع على العكس، وقد مر ما فيه في نظائره، والمراد بالقتل ما كان بسيف ونحوه فتظهر مقابلة الإحراق له، ولا حاجة إلى جعل أو بمعنى بل، والآمرون بذلك إما بعضهم لبعض أو كبرائهم قالوا لأتباعهم: اقتلوه فتستريحوا منه عاجلا أو حرقوه بالنار فإما أن يرجع إلى دينكم إذا مضته النار وإما أن يموت بها إن أصر على قوله ودينه، وأيا ما كان ففيه إسناد للبعض إلى الكل، وجاء هنا الترديد بين قتله عليه السلام وإحراقه فقد يكون ذلك من قائلين ناس أشاروا بالقتل وناس بالإحراق، وفي اقترب قالوا حرقوه اقتصروا على أحد الشيئين وهو الذي فعلوه رموه عليه السلام في النار ولم يقتلوه ثم إنه ليس المراد أنهم لم يصدر عنهم بصدد الجواب عن حججه عليه السلام إلا هذه المقالة الشنيعة كما هو المتبادر من ظاهر النظم الكريم، بل ءن ذلك هو الذي استقر عليه جوابهم بعد اللتيا والتي في المرة الأخيرة، وإلا فقد صدر عنهم من الخرافات والأباطيل ما لا يحصى {فأنجاه الله من النار} الفاء فصيحة أي فألقوه في النار فأنجاه الله تعالى منها بأن جعلها سبحانه عليه بردا وسلاما حسبما بين في مواضع أخر، وقد مر بيان كيفية القائه عليه السلام فيها وإنجائه تعالى إياه منها، وكان ذلك في كوثى من سواد الكوفة، وكونه في المكان المشهور اليوم من أرض الرهى وعنده صورة المنجنيق وماء فيه سمك لا يصطاد ولا يؤكل حرمة له لا أصل له {إن في ذلك} أي في إنجائه عليه السلام منها {لآيات} بينة عجيبة وهي حفظه تعالى إياه من حرها وإخمادها في زمان يسير وإنشاء روض في مكانها.وعن كعب أنه لم يحترق بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه عليه السلام به، ولولا وقوع اسم الإشارة في أثناء القصة لكان الأولى كونه إشارة إلى ما تضمنته {لقوم يؤمنون} خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون الفحص عنها، والتأمل فيها.{وقال} إبراهيم عليه السلام مخاطبا لهم بعد أن أنجاه الله تعالى من النار.{إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا} أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها وائتلافكم كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم، فالمفعول له غاية مترتبة على الفعل ومعلول له في الخارج، أو المعنى إن المودة بعضكم بعضا هي التي دعتكم إلى اتخاذها بأن رأيتم بعض من تودونه اتخذها فاتخذتموها موافقة له لمودتكم إياه، وهذا كما يرى الإنسان من يوده يفعل شيئا فيفعله مودة له، فالمفعول له على هذا علة باعثة على الفعل وليس معلولا له في الخارج، والمراد نفي أن يكون فيها نفع أو ضر وأن الداعي لاتخاذها رجاء النفع أو خوف الضر، وكأنه لم يعتبر ما جعلوه علة لاتخاذها علة وهو ما أشاروا إليه في قولهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] للإشارة إلى أن ذلك لكونه أمرا موهوما لا حقيقة له مما لا ينبغي أن يكون علة باعثة وسببا حاملا لمن له أدنى عقل.وقال بعضهم: يجوز أن يكون المخاطبون في هذه الآية أناسا مخصوصين، والقائلون: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} أناسا غيرهم، وقيل: إن الأوثان أول ما اتخذت بسبب المودة، وذلك أنه كان أناس صالحون فماتوا وأسف عليهم أهل زمانهم فصورا حجارا بصورهم حبا لهم فكانوا يعظمونها في الجملة ولم يزل تعظيمها يزداد جيلا فجيلا حتى عبدت، فالآية إشارة إلى ذلك، والمعنى إنما اتخذ أسلافكم من دون الله أوثانا إلخ، ومثله في القرآن الكريم كثير، وثاني مفعولي اتخذتم محذوف تقديره آلهة.وقال مكي: يجوز أن يكون اتخذ متعديا إلى مفعول واحد كما في قوله تعالى: {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب} [الأعراف: 152] ورد بأنه مما حذف مفعوله الثاني أيضا، وجوز أن يكون مودة هو المفعول الثاني بتقدير مضاف أي ذات مودة وكونها ذات مودة باعتبار كونها سبب المودة، وظاهر كلام الكشاف أن المضاف المحذوف هو لفظ سبب، وقد يستغني عن التقدير بتأويل مودة بمودودة، أو بجعلها نفس المودة مبالغة، واعترض جعل مودة المفعول الثاني بأنه معرفة بالإضافة إلى المضاف إلى الضمير والمفعول الأول نكرة وذلك غير جائز لأنهما في الأصل مبتدأ وخبر.وأجيب بأنه لا يلزم من غير جواز ذلك في أصلهما عدم جوازه فيهما، وإذا سلم اللزوم فلا يسلم كون المفعول الثاني هنا معرفة بالإضافة لما أنها على الاتساع فهي من قبيل الإضافة اللفظية التي لا تفيد تعريفا وإنما تفيد تخفيفا في اللفظ، كذا قيل: وهو كما ترى.وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر {مودة} بالنصب والتنوين بينكم بالنصب، والوجه أن مودة منصوب على أحد الوجهين السابقين و{بينكم} منصوب به أو بمحذوف وقع صفة له.وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس {مودة بينكم} برفع مودة مضافة إلى بين وخفض بين الإضافة، وخرج الرفع على أن مودة خبر مبتدأ محذوف أي هي مودة على أحد التأويلات المعروفة؛ والجملة صفة أوثانا، وجوز كونها المفعول الثاني أو على أنها خبر إن على أن ما مصدرية، أي إن اتخاذكم، أو موصولة قد حذف عائدها وهو المفعول الأول، أي إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثانا مودة بينكم، ويجري فيه التأويلات التي أشرنا إليها.وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو في رواية الأصمعي والأعشى عن أبي بكر {مودة} بالرفع والتنوين {بينكم} بالنصب، ووجه كل معلوم مما مر.وروي عن عاصم {مودة} بالرفع من غير تنوين و{بينكم} بفتح النون، جعله مبنيا لإضافته إلى لازم البناء فمحله الجر بإضافة مودة إليه، ولذا سقط التنوين منها.وفي قوله تعالى: {في الحياة الدنيا} على هذه القراءات والأوجه فيها أوجه من الإعراب ذكرها أبو البقاء:الأول: أن يتعلق باتخذتم على جعل ما كافة ونصب مودة لا على جعلها موصولة أو مصدرية، ورفع مودة لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في حيز الصلة بالخبر.الثاني: أن يتعلق بنفس مودة إذا لم يجعل بين صفة لها بناء على أن الصدر إذا وصف لا يعمل مطلقا، وأجاز ابن عطية هذا التعلق وإن جعل بين صفة لما أنه يتسع بالظرف ما لم يتسع في غيره، فيجوز عمل المصدر به بعد الوصف.الثالث: أن يتعلق بنفس بينكم لأن معناه اجتماعكم أو وصلكم.الرابع: أن يجعل حالا من بينكم لتعرفه بالإضافة، وتعقب أبو حيان هذين الوجهين بعد نقلهما عن أبي البقاء كما ذكرنا بأنهما إعرابان لا يتعقلان.الخامس: أن يجعل صفة ثانية لمودة إذا نونت وجعل بينكم صفة لها، وأجاز ذلك مكي وأبو حيان أيضا.
|